فصل: بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْهَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الناسخ والمنسوخ



.سورة لُقْمَانَ وَالم السَّجْدَةِ:

حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَمُوتٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَسُورَةُ لُقْمَانَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ فَهِيَ مَكِّيَّةٌ سِوَى ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلْنَ بِالْمَدِينَةِ وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَتَتْهُ أَحْبَارُ الْيَهُودِ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ بَلَغَنَا أَنَّكَ تَقُولُ {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] أَفَعَنَيْتَنَا أَمْ عَنَيْتَ غَيْرَنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَنَيْتُ الْجَمِيعَ» فَقَالَتْ لَهُ الْيَهُودُ: يَا مُحَمَّدُ أَوَمَا تَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَلَّفَهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِينَا وَمَعَنَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْيَهُودِ: «التَّوْرَاةُ وَمَا فِيهَا مِنْ الأَنْبَاءٍ قَلِيلٌ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى» فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْمَدِينَةِ ثَلَاثَ آيَاتٍ وَهُنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27] إِلَى تَمَامِ الثَّلَاثِ الْآيَاتِ.
قَالَ: وَسُورَةُ الم السَّجْدَةِ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ فَهِيَ مَكِّيَّةٌ سِوَى ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلْنَ بِالْمَدِينَةِ فِي رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ شَجَرَ بَيْنَهُمَا كَلَامٌ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ أَنَا أَذْرَبُ مِنْكَ لِسَانًا وَأَحَدُّ مِنْكَ سِنَانًا وَأَرَدُّ لِلْكَتِيبَةِ، فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ: اسْكُتْ فَإِنَّكَ فَاسِقٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] إِلَى تَمَامِ الثَّلَاثِ الْآيَاتِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فِي سُورَةِ الم تَنْزِيلُ السَّجْدَةِ مَوْضِعٌ وَاحِدٌ قَالَ جَلَّ وَعَزَّ {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} [السجدة: 30].
حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [السجدة: 30] قَالَ عَنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ {وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} [السجدة: 30] قَالَ: نَسَخَتْهَا آيَةُ السَّيْفِ فِي بَرَاءَةَ قَوْلِهِ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] الْآيَةَ.

.سورة الْأَحْزَابِ:

حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَمُوتُ، بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَسُورَةُ الْأَحْزَابِ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فَهِيَ مَدَنِيَّةٌ.

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الْأُولَى مِنْهَا:

قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5].
فَكَانَ هَذَا نَاسِخًا لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّبَنِّي وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَبَنَّى زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ فَنُسِخَ التَّبَنِّيَ وَأُمِرَ أَنْ يَدْعُوَا مَنْ دُعُوا إِلَى أَبِيهِ الْمَعْرُوفِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ مَعْرُوفٌ نَسَبُهُ إِلَى وَلَائِهِ الْمَعْرُوفِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَاءٌ مَعْرُوفٌ قَالَ يَا أَخِي يَعْنِي فِي الدِّينِ قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] وَهَذَا مِنْ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ.
كَمَا حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، قَالَ: مَا كُنَّا نَدْعُوهُ إِلَّا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ حَتَّى نَزَلَتْ {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5].
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَقَدْ ذَكَرْنَا {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [الأحزاب: 6] وَكَذَا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49].

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب: 52].
لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِالسُّنَّةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةٍ أُخْرَى وَكَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ حَظَرَ عَلَيْهِ التَّزَوُّجَ بَعْدَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ ثُمَّ أَطْلَقَهُ لَهُ وَأَبَاحَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51] وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَوَّجَ سِوَى مَنْ كَانَ عِنْدَهُ ثَوَابًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُنَّ حِينَ اخْتَرْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ وَلَكِنْ لَمَّا حُظِرَ عَلَيْهِنَّ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ بَعْدَ مَوْتِهِ حُظِرَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهُنَّ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ الْمَعْنَى لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدِ هَذِهِ الصِّفَةِ يَعْنِي {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} [الأحزاب: 50] الْآيَةَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ بَعْدَ الْمُسْلِمَاتِ وَلَا تَتَزَوَّجُ يَهُودِيَّةً وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَا تُبَدِّلْ وَاحِدَةً مِنْ أَزْوَاجِكَ بِيَهُودِيَّةٍ وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّامِنُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} [الأحزاب: 38] كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ شَاءَ بِغَيْرِ عَدَدٍ مَحْظُورٍ كَمَا كَانَ لِلْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ، فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ إِنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِالسُّنَّةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَمَا قُرِئَ عَلَى عَلِيِّ بْنِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ» فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ عَائِشَةَ قَدْ كَانَ عِنْدَهَا أَنَّهُ حُظِرَ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّزَوُّجُ ثُمَّ أُطْلِقَ لَهُ وَأُبِيحَ وَكَانَ هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ أَجَازَ أَنْ يَنْسَخَ الْقُرْآنَ بِالسُّنَّةِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ جُلَّةِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
كَمَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمَوْصِلِيُّ، قَالَ حَدَّثَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبِ بْنِ زَمْعَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: «لَمْ يَمُتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ شَاءَ إِلَّا ذَاتَ مَحْرَمٍ وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51]».
وَهَذَا وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَوْلَى مَا قِيلَ فِي الْآيَةِ وَهُوَ وَقَوْلُ عَائِشَةَ وَاحِدٌ فِي النَّسْخِ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَائِشَةُ أَرَادَتْ أَحَلَّ لَهُ ذَلِكَ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ مَعَ هَذَا قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَالضَّحَّاكِ وَقَدْ عَارَضَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْكُوفِيِّينَ فَقَالَ مُحَالٌ أَنْ تَنْسَخَ هَذِهِ الْآيَةُ يَعْنِي {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51] {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] وَهِيَ قَبْلَهَا فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ وَقَوَّى قَوْلَ مَنْ قَالَ نُسِخَتْ بِالسُّنَّةِ لِأَنَّهُ مَذْهَبُ بَعْضِ الْكُوفِيِّينَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ الْمُعَارَضَةُ لَا تَلْزَمُ وَقَائِلُهَا غَالِطٌ لِأَنَّ الْقُرْآنَ بِمَنْزِلَةِ سُورَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.
وَيُبَيِّنُ لَكَ أَنَّ اعْتِرَاضَ هَذَا لَا يَلْزَمُ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] مَنْسُوخَةٌ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ لَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ خِلَافًا بِالْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُظِرَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ عَلَى نِسَائِهِ لِأَنَّهُنَّ اخْتَرْنَ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَعُوِّضْنَ هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَهَذَا الْقَوْلُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَكَذَا ثُمَّ نُسِخَ فَإِنْ قَالَ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ مَا كَانَ ثَوَابًا قِيلَ يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ مَا كَانَ ثَوَابًا بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي الثَّوَابِ فَيَكُونُ هَذَا نَسْخٌ وَعِوَضٌ مِنْهُ أَنَّهُنَّ أَزْوَاجُهُ فِي الْجَنَّةِ فَهَذَا أَعْظَمُ خَطَرًا وَأَجَلُّ مِقْدَارًا كَمَا قَالَ حُذَيْفَةُ لِامْرَأَتِهِ: «لَا تَزَوَّجِي بَعْدِي فَإِنَّ آخِرَ أَزْوَاجِ الْمَرْأَةِ زَوْجُهَا فِي الْجَنَّةِ»، ولِذَلِكَ حُظِرَ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ بَعْدَهُ وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ أَنَّهُ لَمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِنَّ أَنْ يَتَزَوَّجْنَ بَعْدَهُ حُرِّمَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهُنَّ قَوْلُ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: إِنَّ الْمَعْنَى لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدِ هَذِهِ الصِّفَةِ قَوْلُ أَبِي رَزِينٍ وَهُوَ يَرْوِي عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ وَالْقَوْلُ السَّادِسُ: إِنَّ الْمَعْنَى لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدِ الْمُسْلِمَاتِ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةَ قَالَ مُجَاهِدٌ: لِئَلَّا تَكُونَ كَافِرَةٌ أُمًّا لِلْمُؤْمِنِينَ. هَذَا الْقَوْلُ يَبْعُدُ لِأَنَّهُ يُقَدِّرُهُ مِنْ بَعْدِ الْمُسْلِمَاتِ وَلَمْ يَجْرِ لِلْمُسْلِمَاتِ ذِكْرٌ.
وَالْقَوْلُ السَّابِعُ: إِنَّهُ حُرِّمَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَدِّلَ بَعْضَ نِسَائِهِ بِيَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ نَصَّ الْقُرْآنِ {وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52] وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا أَنْ تُبَادِلَ وَحَكَى ابْنُ زَيْدٍ عَنِ الْعَرَبِ، أَنَّهَا كَانَتْ تُبَادِلُ بِأَزْوَاجِهَا يَقُولُ أَحَدُهُمْ خُذْ زَوْجَتِي وَأَعْطِنِي زَوْجَتَكَ وَهَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ عِنْدَ النَّاقِلِينَ لِأَفْعَالِ الْعَرَبِ وَالْقَوْلُ الثَّامِنُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُ حَلَالٌ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَنْ شَاءَ مِنَ النِّسَاءِ ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ قَوْلَ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: وَكَذَا كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، تَزَوَّجَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَبْعَمِائَةِ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ وَكَانَ لَهُ ثَلَاثُمِائَةِ مَمْلُوكَةٍ فَذَلِكَ أَلْفٌ وَكَانَ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِائَةُ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ أُمُّ سُلَيْمَانَ امْرَأَةُ أُورِيَاءَ بْنِ حَنَانٍ وَقَالَ عُمَرُ مَوْلَى غُفْرَةَ: لَمَّا قَالَتِ الْيَهُودُ مَا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُغُلٌ إِلَّا التَّزَوُّجُ فَحَسَدُوهُ عَلَى ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54] كَانَ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَلْفُ امْرَأَةٍ مِنْهَا سَبْعُمِائَةِ حُرَّةٍ وَكَانَ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِائَةُ امْرَأَةٍ.

.سورة سَبَأٍ وفَاطِرٍ، وَيس وَالصَّافَّاتِ:

حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَمُوتٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُنَّ نَزَلْنَ بِمَكَّةَ وَلَمْ نَجِدْ فِيهِنَّ إِلَّا آيَةً وَاحِدَةً فِي وَالصَّافَّاتِ قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102] إِلَى تَمَامِ الْقِصَّةِ.
لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102] وَأَنَّ بَعْدَهُ {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] وَأَجَازَ قَائِلُ هَذَا أَنْ يُنْسَخَ الشَّيْءُ قَبْلَ أَنْ يُعْمَلَ بِهِ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُرِضَتْ عَلَيْهِ خَمْسُونَ صَلَاةً ثُمَّ نُقِلَتْ إِلَى خَمْسٍ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] وَأَنَّ بَعْدَهُ {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا} [المجادلة: 13] الْآيَةَ وَبِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66] وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا فَرَضَ شَيْئًا اسْتَعْمَلَ عِبَادَهَ مِنْهُ بِمَا أَحَبَّ ثُمَّ نَقَلَهُمْ إِذَا شَاءَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَهَذَا قَوْلٌ وَالْقَوْلُ الثَّانِي إنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَجُوزُ فِيهِ نَسْخٌ لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِشَيْءٍ لَيْسَ بِمُمْتَدٍّ فَلَا يَجُوزُ نَسْخٌ فِي مِثْلِ هَذَا. لَوْ قَالَ قَائِلٌ لِرَجُلٍ قُمْ ثُمَّ قَالَ لَهُ لَا تَقُمُّ لَكَانَ هَذَا بِدًا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُقَالَ اذْبَحْ ثُمَّ يُقَالُ لَا تَذْبَحْ فَهَذَا عَظِيمٌ مِنَ الْقَوْلِ لَا يَقَعُ فِيهِ نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ وَقَالَ قَائِلٌ: هَذَا الذَّبْحُ فِي اللُّغَةِ الْقَطْعُ وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ إِنَّ هَذَا أَيْضًا لَا يَكُونُ فِيهِ نَسْخٌ وَإِنَّمَا أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالذَّبْحِ وَالذَّبْحُ فِعْلُهُ وَقَدْ فَعَلَ مَا يَتَهَيَّأُ لَهُ وَلَيْسَ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَنْسُوبٍ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ وَهَذَا قَوْلٌ صَحِيحٌ حَسَنٌ عَلَيْهِ أَهْلُ التَّأْوِيلِ قَالَ مُجَاهِدٌ: لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ بِذِبْحِ ابْنِهِ إِسْحَاقَ قَالَ لَهُ يَا أَبَهْ خُذْ بِنَاصِيَتِي وَاجْلِسْ بَيْنَ كَتِفَيَّ فَلَا أُوذِيكَ إِذَا وَجَدْتَ حَرَّ السِّكِّينِ فَلَمَّا وَضَعَ السِّكِّينَ عَلَى حَلْقِهِ وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ فَلَمَّا أَمَرَّ السِّكِّينَ عَلَى حَلْقِهِ انْقَلَبَتْ فَقَالَ لَهُ مَالَكَ يَا أَبَهْ؟ قَالَ: انْقَلَبَتْ قَالَ فَاطْعَنْ بِهَا طَعْنًا قَالَ فَفَعَلَ فَانْثَنَتْ فَعَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ الصِّدْقَ فَفَدَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَقَدْ فَعَلَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا أُمِرَ بِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 105] فَهَذَا مِمَّا يَجِبُ أَنْ يَقِفَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ لِئَلَّا يُنْسَبَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْبَدَاءُ وَإِنَّمَا أَشْكَلَ عَلَى قَائِلِ ذَلِكَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] لِأَنَّهُ جَهِلَ مَعْنَاهُ وَلَمْ يَدْرِ مَنِ الْمُفْدِي عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا الْمُفْدِي ابْنُهُ وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ.
فأما الْقَوْلُ الثَّانِي فَلَوْ صَحَّ عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ لَمَا امْتَنَعَ الْقَوْلُ بِهِ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ عَظِيمٌ مِنَ الْقَوْلِ وَاحْتِجَاجُ صَاحِبِهِ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَأْمُرَ أُمَّتَهُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً ثُمَّ نُقِلَ ذَلِكَ إِلَى خَمْسٍ لَا حَجَّةَ لَهُ فِيهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ نَسْخٌ وَلَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنَ الْعُلَمَاءِ قَالَ نُسِخَ الشَّيْءُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَنْزِلَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ إِلَّا الْقَاشَانِيُّ فَإِنَّهُ خَرَجَ عَنْ قَوْلِ الْجَمَاعَةِ لِيَصِحَّ لَهُ قَوْلُهُ إِنَّ الْبَيَانَ لَا يَتَأَخَّرُ وَإِنَّمَا أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْمُرَ أُمَّتَهُ بِخَمْسِينَ صَلَاةً فَمِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْمُرَهُمُ رَاجِعٌ وَإِنَّمَا مِثْلُ هَذَا أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ فَيُرَاجِعُ فِيهِ فَيَنْقُصُ مِنْهُ أَوْ يُزَالُ فَلَا يُقَالُ لِهَذَا نَسْخٌ وَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] فَمِنْ أَيْنَ لِقَائِلِ هَذَا أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى لَمْ يُعْمَلْ بِهَا وَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا} [المجادلة: 13] فَمِنْ أَيْنَ لَهُ أَيْضًا أَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى لَمْ يُعْمَلْ بِهَا وَقَدْ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُجَاشِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ قَيْسٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] قَالَ: أَوَّلُ مَنْ عَمِلَ بِهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ نُسِخَتْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 187] وَإِنَّمَا فَعَلَ هَذَا وَاحِدٌ وَاحْتِجَاجُهُ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ إِذَا فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى شَيْئًا اسْتَعْمَلَ عِبَادَهُ بِمَا أَحَبَّ مِنْهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ يُنْسَخُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ بَلْ لَوْ قَالَ قَائِلٌ بَلْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ لَا يُنْسَخُ حَتَّى يُسْتَعْمَلَ أَوْ يُسْتَعْمَلُ بَعْضُهُ لَكَانَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الشَّيْءَ لَا يُنْسَخُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ أَنَّ احْتِجَاجَ الْعُلَمَاءِ فِي النَّسْخِ أَنَّ مَعْنَاهُ إِذَا قُلْتَ افْعَلْ كَذَا وَكَذَا فِي مَعْنَاهُ إِلَى وَقْتِ كَذَا أَوْ تَشْتَرِطْ كَذَا فَإِذَا نُسِخَ فَإِنَّمَا أَظْهَرَ ذَلِكَ الَّذِي كَانَ مُضْمَرًا فَإِذَا قِيلَ صَلُّوا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَمَعْنَاهُ إِلَى أَنْ أُزِيلَ ذَلِكَ أَوْ إِلَى وَقْتِ كَذَا أَوْ عَلَى أَنِّي أُزِيلُ ذَلِكَ وَقْتَ كَذَا وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ حَقِيقَةَ ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: صَلِّ الظُّهْرَ بَعْدَ الزَّوَالِ عَلَى أَنِّي أُزِيلُهَا عَنْكَ مَعَ الزَّوَالِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فَهَذَا بَيِّنٌ وأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْبَيَانَ يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ فَخَالَفَهُمْ قَائِلُ هَذَا وَجَعَلَهُ نَسْخًا وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ لِهَذَا نَسْخٌ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] ثُمَّ بَيَّنَ مَا هِيَ وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَّةِ: إِنَّ هَذَا نَسْخٌ وَاحْتِجَاجُهُ بِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ يُخَالِفُ فِيهِ لِأَنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ الْحُذَّاقَ لَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ خِلَافًا أَنَّ الْبَيَانَ يَتَأَخَّرُ فَمِمَّنِ احْتَجَّ مِنْهُمْ لِتَأَخُّرِهِ ابْنُ سُرَيْجٍ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] وَثُمَّ فِي اللُّغَةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّانِيَ بَعْدَ الْأَوَّلِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْبَيَانَ خِلَافُ النَّسْخِ أَنَّ الْبَيَانَ يَكُونُ فِي الْأَخْبَارِ وَالنَّسْخَ لَا يَكُونُ فِي الْأَخْبَارِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْبَيَانَ يَكُونُ مَعَهُ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى الْخُصُوصِ إِذَا كَانَ اللَّفْظُ عَامًّا أَوْ كَانَ خَاصًّا يُرَادُ بِهِ الْعَامُّ كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] فَلَمَّا قَالَ: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر: 3] دَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ بِمَعْنَى النَّاسِ وَقَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {وَالْمَلَكُ} [الحاقة: 17] فَلَمَّا قَالَ: {عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة: 17] عُلِمَ أَنَّ الْمَلَكَ بِمَعْنَى الْمَلَائِكَةِ فَهَكَذَا الْخُصُوصُ وَالْعُمُومُ وَهَكَذَا التَّخْصِيصُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ لَا يُسَمَّى نَسْخًا وَهَذَا الْبَابُ مِنَ اللُّغَةِ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ كُلُّ مَنْ نَظَرَ فِي الْعِلْمِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

.سورة ص وَالزُّمَرِ:

حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَمُوتٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمَا نَزَلَتَا بِمَكَّةَ سِوَى ثَلَاثِ آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلْنَ بِالْمَدِينَةِ فِي وَحْشِيٍّ قَاتِلِ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ أَسْلَمَ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ فَكَانَ يَثْقُلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّظَرُ إِلَيْهِ حَتَّى سَاءَ ظَنُّ وَحْشِيٍّ وَخَافَ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقْبَلْ إِسْلَامَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمَدِينَةِ ثَلَاثَ آيَاتٍ وَهُنَّ قَوْلُهُ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53] إِلَى تَمَامِ الثَّلَاثِ الْآيَاتِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: فِي ص ثَلَاثُ مَوَاضِعَ مِمَّا يَصْلُحُ فِي هَذَا الْكِتَابِ:
فَالْمَوْضِعُ الْأَوَّلُ:
قَوْلُهُ تَعَالَى {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ص: 17] ثُمَّ أُمِرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ بِالْقِتَالِ وَقَدْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ هَذَا غَيْرَ مَنْسُوخٍ وَيَكُونُ تَأْدِيبًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ وَأَمْرًا مِنْهُ لِلصَّبِرِ عَلَى أَذَاهُمْ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ مِمَّا يُؤْذُونَكَ بِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّ قَبْلَهُ ذِكْرُ مَا قَدْ آذَوْهُ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص: 16] لِأَنَّهُمْ قَالُوا هَذَا اسْتِهْزَاءً وَإِنْكَارًا لِمَا جَاءَ بِهِ كَمَا حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالُوا: {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} [ص: 16] قَالَ: الْعَذَابُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: نَصِيبًا مِنَ الْعَذَابِ. قَالَ ذَلِكَ أَبُو جَهْلٍ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ حَقًّا فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرِنَا مَنَازِلَنَا مِنَ الْجَنَّةِ نَتَّبِعْكَ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ {عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} [ص: 16] أَيْ رِزْقَنَا.
وقُرِئَ عَلَى أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سُلَيْمَانَ، قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الْمِقْدَامِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} [ص: 16] قَالَ: نَصِيبَنَا مِنَ الْآخِرَةِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا رُوِيَ فِيهِ وَأَصْلُ الْقِطِّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْكِتَابُ بِالْجَائِزَةِ وَهُوَ النَّصِيبُ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ قَطُّ أَيْ حَسَبُ أَيْ يَكْفِيكَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنْ قَطَطْتُ أَيْ قَطَعْتُ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَقَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِيهِ وَأَهْلِ اللُّغَةِ فِي اشْتِقَاقِهِ إِلَّا شَيْئًا حَكَاهُ الْقُتْبِيُّ أَنَّهُمْ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة: 19] الْآيَةَ قَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا كُتُبَنَا حَتَّى نَنْظُرَ أَيَقَعُ فِي أَيْمَانِنَا أَمْ فِي شَمَائِلِنَا اسْتِهْزَاءً فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} [ص: 16].
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا الْقَوْلُ أَصْلُهُ عَنِ الْكَلْبِيِّ وَكَثِيرًا مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ الْقُتْبِيُّ وَالْفِرَّاءُ وَأَهْلُ الدِّينِ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ يَحْظُرُونَ ذِكْرَ شَيْءٍ عَنِ الْكَلْبِيِّ وَلَاسِيَّمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ.
وَالْمَوْضِعُ الْآخَرُ:
قَوْلُهُ تَعَالَى {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 33] فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ أُبِيحَ هَذَا ثُمَّ نُسِخَ وَحُظِرَ عَلَيْنَا قَالَ الْحَسَنُ: قَطَعَ أَسْوُقَهَا وَأَعْنَاقَهَا فَعَوَّضَهُ اللَّهُ مَكَانَهَا خَيْرًا مِنْهَا وَسَخَّرَ لَهُ الرِّيحَ.
وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: طَفِقَ يَمْسَحُ أَعْنَاقَهَا وَعَرَاقِيبَهَا حُبًّا.
وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ عَاقَبَ خَيْلًا وَلَاسِيَّمَا بِغَيْرِ جِنَايَةٍ إِنَّمَا شُغِلَ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا فَفَرَّطَ فِي صَلَاةٍ فَلَا ذَنْبَ لَهَا فِي ذَلِكَ وَرَوَى الْحَارِثُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: الصَّلَاةُ الَّتِي فَرَّطَ فِيهَا سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَلَاةُ الْعَصْرِ.
وَالْمَوْضِعُ الثَّالِثُ:
قَوْلُهُ تَعَالَى {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ هَذَا مَنْسُوخٌ فِي شَرِيعَتِنَا وَإِذَا حَلَفَ رَجُلٌ أَنْ يَضْرِبَ إِنْسَانًا عَشْرَ ضَرَبَاتٍ ثُمَّ لَمْ يَضْرِبْهُ عَشْرَ مَرَّاتٍ حَنِثَ وَقَالَ قَوْمٌ بَلْ لَا يَحْنَثُ إِذَا ضَرَبَهُ بِمَا فِيهِ عَشْرَةً بَعْدَ أَنْ تُصِيبُهُ الْعَشْرَةُ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمِنْ قَبْلِهِ عَطَاءٌ، قَالَ: هِيَ عَامَّةٌ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ هِيَ خَاصَّةٌ.
وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَمِيلُونَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ.

.الْحَوَامِيمُ السَّبْعُ:

حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَمُوتٌ، بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُنَّ نَزَلْنَ بِمَكَّةَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَإِنَّمَا يُذْكَرُ مَا نَزَلَ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ لِأَنَّ فِيهِ أَعْظَمَ الْفَائِدَةِ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ لِأَنَّ الْآيَةَ إِذَا كَانَتْ مَكِّيَّةً وَكَانَ فِيهَا حُكْمٌ وَكَانَ فِي غَيْرِهَا مِمَّا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ حُكْمٌ غَيْرُهُ عُلِمَ أَنَّ الْمَدَنِيَّةَ نَسَخَتِ الْمَكِّيَّةَ وَجَدْنَا فِي الْحَوَامِيمِ ثَمَانِيَةَ مَوَاضِعَ مِنْهَا فِي حم عسق خَمْسَةُ مَوَاضِعَ.

.فِي حم عسق خَمْسَةُ مَوَاضِعَ:

بَابُ ذِكْرِ الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ مِنْهَا:
قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5].
حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُجَاشِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ الصَّنْعَانِيُّ، قَالَ دَخَلْتُ عَلَى وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ مَعَ ذِي جَوْلَانِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5] فَقَالَ: نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي فِي الطَّوْلِ: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 7].
هَذَا لَا يَقَعُ فِيهِ نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ أَرَادَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى نُسْخَةِ تِلْكَ الْآيَةِ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا وَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَتَأَوَّلُ لِلْعُلَمَاءِ وَلَا يَتَأَوَّلُ عَلَيْهِمُ الْخَطَأُ الْعَظِيمُ إِذَا كَانَ لِمَا قَالُوهُ وَجْهٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَا مَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5] قَالَ: لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ.
بَابُ ذِكْرِ الْمَوْضِعِ الثَّانِي:
قَالَ جَلَّ وَعَزَّ إِخْبَارًا: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [الشورى: 15].
فِيهَا قَوْلَانِ مُحْتَمَلَانِ فَمِنْ ذَلِكَ:
مَا حَدَّثَنَاهُ عَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [الشورى: 15] مُخَاطَبَةٌ لِلْيَهُودِ أَيْ لَنَا دِينُنَا وَلَكُمْ دِينُكُمْ قَالَ: ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] الْآيَةَ.
وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [الشورى: 15] أَيْ لَنَا دِينُنَا وَلَكُمْ دِينُكُمْ {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] أَيْ لَا خُصُومَةَ وَهَذَا لِلْيَهُودِ ثُمَّ نَسَخَهَا {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] فَهَذَا قَوْلٌ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ غَيْرَ مَنْسُوخَةٍ أَيْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ لِأَنَّ الْبَرَاهِينَ قَدْ ظَهَرَتْ وَالْحُجَّةُ قَدْ قَامَتْ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ: يَجُوزُ لِأَنَّ مَعْنَى {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [الشورى: 15] عَلَى ذَلِكَ الْقَوْلِ لَمْ نُؤْمَرْ أَنْ نَحْتَجَّ عَلَيْكُمْ وَنُقَاتِلَكُمْ ثُمَّ نُسِخَ كَمَا أَنَّ قَائِلًا لَوْ قَالَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَوَّلَ الْقِبْلَةُ لَا تُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَةِ ثُمَّ حَوَّلَ النَّاسُ بَعْدُ لَجَازَ أنْ يُقَالَ نُسِخَ ذَلِكَ.
بَابُ ذِكْرِ الْمَوْضِعِ الثَّالِث:
قَالَ جَلَّ وَعَزَّ {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبِ} [الشورى: 20].
فِيهِ قَوْلَانِ مِنْ ذَلِكَ:
مَا حَدَّثَنَاهُ عَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: وَقَوْلُهُ تَعَالَى {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ} [الشورى: 20] مَنْ كَانَ مِنَ الْأَبْرَارِ يُرِيدُ بِعَمَلِهِ الصَّالِحِ ثَوَابَ الْآخِرَةِ {نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} [الشورى: 20] أَيْ فِي حَسَنَاتِهِ {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا} [الشورى: 20] أَيْ مَنْ كَانَ مِنَ الْفُجَّارِ يُرِيدُ بِعَمَلِهِ الْحَسَنِ الدُّنْيَا {نُؤْتِهِ مِنْهَا} [آل عمران: 145] ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء: 18].
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ إِنَّهَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ وَهُوَ الَّذِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ لِأَنَّ هَذَا خَبَرٌ وَالْأَشْيَاءُ كُلُّهَا بِإِرَادَةِ اللَّهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقُلْ أَحَدُكُمُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ».
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُتَأَوَّلَ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ هَذِهِ عَلَى نَسْخِهِ هَذِهِ فَيَصِحُّ ذَلِكَ وَرُبَّمَا أَغْفَلَ مَنْ لَمْ يُنْعَمِ النَّظَرَ فِي مِثْلِ هَذَا فَجُعِلَ فِي الْأَخْبَارِ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا فَلَحِقَهُ الْغَلَطُ الْعَظِيمُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ أَنَّهُ خَبَرٌ وَقَدْ قَالَ قَتَادَةُ فِي الْآيَةِ: مَنْ آثَرَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَكَدَحَ لَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَلَمْ يَزْدَدْ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا مَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ.
بَابُ ذِكْرِ الْمَوْضِعِ الرَّابِعِ:
قَالَ جَلَّ وَعَزَّ {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23].
فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ، فَمِنْ ذَلِكَ:
مَا حَدَّثَنَاهُ عَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام: 90] قَالَ: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى الْإِيمَانِ جُعْلًا إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي لِقَرَابَتِي وَتُصَدِّقُونِي وَتَمْنَعُوا مِنِّي فَفَعَلَ ذَلِكَ بالْأَنْصَارُ وَمَنَعُوا مِنْهُ مَنْعَهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، ثُمَّ نَسَخَتْهَا {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [سبأ: 47].
وَمَذْهَبُ عِكْرِمَةَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ قَالَ: كَانُوا يَصِلُونَ أَرْحَامَهُمْ فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعُوهُ فَقَالَ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام: 90] إِلَّا أَنْ تَوَدُّونِي وَتَحْفَظُونِي لِقَرَابَتِي وَلَا تُكَذِّبُونِي وَفِي رِوَايَةِ قَيْسٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَوَدُّهُمْ؟ قَالَ: «عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَوَلَدُهُمَا عَلَيْهِمُ السَّلَامُ» وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ مِنْ أَجْمَعِهَا وَأَبْيَنِهَا.
كَمَا قُرِئَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّقْرِ بْنِ نَصْرٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَوْفٌ، وَمَنْصُورٌ، عَنِ الْحَسَنِ، {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]، قَالَ التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّوَدُّدُ إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ فَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ.
وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ الْحَدِيثُ الْمُسْنَدُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمُرَادِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا قَزَعَةُ وَهُوَ ابْنُ سُوَيْدٍ الْبَصْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى مَا أَتَيْتُكُمْ بِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى أَجْرًا إِلَّا أَنْ تُوَادُّوا وَاللَّهَ تَعَالَى وَأَنْ تَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ» فَهَذَا الْمُبَيَّنُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ قَالَ هَذَا وَكَذَا قَالَتِ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَجْمِعَينَ قَبْلَهُ {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [يونس: 72].
بَابُ ذِكْرِ الْمَوْضِعِ الْخَامِسِ:
قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39].
زَعَمَ ابْنُ زَيْدٍ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ قَالَ: الْمُسْلِمُونَ يَنْتَصِرُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ نَسَخَهَا أَمْرُهُمْ بِالْجِهَادِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ هِيَ مُحْكَمَةٌ وَالِانْتِصَارُ مِنَ الظَّالِمِ بِالْحَقِّ تَقْوِيمٌ لَهُ مَحْمُودٌ مَمْدُوحٌ صَاحِبُهُ كَانَ الظَّالِمُ مُسْلِمًا أَوْ مُشْرِكًا. كَمَا رَوَى أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39] قَالَ: يَنْتَصِرُونَ مِمَّنْ بَغَى عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَدُّوا.
وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ ابْنِ زَيْدٍ لِأَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] أَوْلَى مَا قِيلَ فِيهِ مُعَاقَبَةُ الْمُسِيءِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَسُمِّيَتِ الثَّانِيَةُ سَيِّئَةً لِأَنَّهَا مَسَاءَةٌ لِلْمُقْتَصِّ مِنْهُ وَالنَّحْوِيُّونَ يَقُولُونَ هَذَا عَلَى الِازْدِوَاجِ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ هَذَا فِي الْعُقُوبَاتِ وَالْقِصَاصِ وَأَخْذُ الْمَالِ لَا فِي الْكَلَامِ إِلَّا ابْنَ أَبِي نَجِيحٍ.
كَمَا حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] قَالَ إِذَا قَالَ لَهُ أَخْزَاكَ اللَّهُ قَالَ لَهُ أَخْزَاكَ اللَّهُ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ هَذَا كُلُّهُ مَنْسُوخٌ بِالْجِهَادِ وَكَذَا عِنْدَهُ وَلِمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ إِنَّمَا هُوَ لِلْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً.
وَقَوْلُ قَتَادَةَ إِنَّهُ عَامٌّ وَكَذَا يَدُلُّ ظَاهَرُ الْكَلَامِ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ.

.بَابُ ذِكْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي فِي الزُّخْرُفِ:

قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 89].
جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْأَمْرِ بِالْقِتَالِ فَمِنْ ذَلِكَ:
مَا حَدَّثَنَاهُ عَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} [الزخرف: 89] أَيْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ {وَقُلْ سَلَامٌ} [الزخرف: 89] أَيْ مَعْرُوفًا أَيْ قُلْ لِمُشْرِكِي أَهْلِ مَكَّةَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ثُمَّ نُسِخَ هَذَا فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] الْآيَةَ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُجَاشِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ نَيْزَكَ، عَنِ الْخَفَّافِ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} [الزخرف: 89] قَالَ: ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ وَأُمِرَ بِالْقِتَالِ.

.بَابُ ذِكْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي فِي الْجَاثِيَةِ:

قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية: 14].
قَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ هِيَ مَنْسُوخَةٌ فَمِنْ ذَلِكَ:
مَا حَدَّثَنَاهُ عَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الجاثية: 14]: نَزَلَتْ فِي عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَتَمَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ فَأَرَادَ أَنْ يَبْطُشَ بِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الجاثية: 14] يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14] وَيَعْفُوا وَيَتَجَاوَزُوا لِلَّذِينَ لَا يَخَافُونَ مِثْلَ عُقُوبَاتِ الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ {لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية: 14] ثُمَّ نُسِخَ هَذَا فِي بَرَاءَةَ بِقَوْلِهِ {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5].
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14] قَالَ: نَسَخَتْهَا {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5].

.بَابُ ذِكْرِ الْآيَةِ الَّتِي فِي الْأَحْقَافِ:

قَالَ جَلَّ وَعَزَّ: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9].
قُرِئَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9] قَالَ: يَرَوْنَ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ الْفَتْحِ.
وَفِي رِوَايَةِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَسَخَهَا {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] الْآيَةَ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ مِنْ جِهَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ خَبَرٌ وَالْآخَرُ أَنَّ مِنَ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ فِيهِ خَطَّابٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَاحْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ وَتَوْبِيخٌ لَهُمْ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَيْضًا خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ كَمَا كَانَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ وَمُحَالٌ أَنْ يَقُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُشْرِكِينَ {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9] فِي الْآخِرَةِ وَلَمْ يَزَلْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَوَّلِ مَبْعَثِهِ إِلَى وَفَاتِهِ يُخْبِرُ أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ يُخَلَّدُ فِي النَّارِ وَمَنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ وَاتَّبَعَهُ وَأَطَاعَهُ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، فَقَدْ دَرَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُفْعَلُ بِهِ وَبِهِمْ وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ فِي الْآخِرَةِ فَيَقُولُوا كَيْفَ نَتَّبِعُكَ وَأَنْتَ لَا تَدْرِي أَتَصِيرُ إِلَى خَفْضٍ وَدَعَةٍ أَمْ إِلَى عَذَابٍ وَعِقَابٍ وَالصَّحِيحُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ قَوْلُ الْحَسَنِ كَمَا قُرِئَ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ، {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9]: فِي الدُّنْيَا.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا أَصَحُّ قَوْلٍ وَأَحْسَنُهُ لَا يَدْرِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَلْحَقُهُ وَإِيَّاهُمْ مِنْ مَرَضٍ وَصِحَّةٍ وَرُخْصٍ وَغَلَاءٍ وَغِنًى وَفَقْرٍ، وَمِثْلُهُ {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188].

.سورة مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

حَدَّثَنَا يَمُوتُ، بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سُورَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَدَنِيَّةٌ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَجَدْنَا فِيهَا مَوْضِعَيْنِ:
بَابُ ذِكْرِ الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ مِنْهَا:
قَالَ عَزَّ وَجَلَّ {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ.
فأما مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4].
فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ، مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ وَهِيَ فِي أَهْلِ الْأَوْثَانِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفَادَوْا وَلَا يُمَنُّ عَلَيْهِمْ وَالنَّاسِخُ لَهَا عِنْدَهُمْ {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ فِي الْكُفَّارِ جَمِيعًا وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هِيَ نَاسِخَةٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقْتَلَ الْأَسِيرُ وَلَكِنْ يُمَنُّ عَلَيْهِ أَوْ يُفَادَى بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ الْأَسْرُ إِلَّا بَعْدَ الْإِثْخَانِ وَالْقَتْلِ، فَإِذَا أُسِرَ الْعَدُوُّ بَعْدَ ذَلِكَ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ بِمَا رَأَى مِنْ قَتْلٍ أَوْ مَنٍّ أَوْ مُفَادَاةٍ وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ: إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ غَيْرُ نَاسِخَةٍ وَلَا مَنْسُوخَةٍ وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ أَيْضًا فَمِمَّنْ قَالَ الْقَوْلَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ.
مِنْ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ غُلَيْبٍ، عَنْ يوسُفَ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] قَالَ: نَسَخَهَا {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5].
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا مَعْرُوفٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ جُرَيْجٍ: إِنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ وَإِنَّهَا فِي كُفَّارِ الْعَرَبِ وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ وَكَثِيرٍ مِنَ الْكُوفِيِّينَ وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّهَا فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ وَإِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَأَهْلِ النَّظَرِ وَقَالُوا إِذَا أُسِرَ الْمُشْرِكُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُمَنَّ عَلَيْهِ وَلَا أَنْ يُفَادَى بِهِ فَيُرَدَّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يُفَادَى إِلَّا بِالْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقْتَلُ، وَالنَّاسِخُ لَهَا {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] إِذْ كَانَتْ بَرَاءَةُ آخِرَ مَا نَزَلَ بِالتَّوْقِيفِ فَوَجَبَ أَنْ يُقْتَلَ كُلُّ مُشْرِكٍ إِلَّا مَنْ قَامَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى تَرْكِهِ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَمَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ، قَالُوا: وَالْحُجَّةُ لَنَا فِي قَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَأَبَا عَزَّةَ قِيلَ فَإِنَّ هَذَيْنِ وَغَيْرَهُمَا أَهْلُ أَوْثَانٍ وَبَراءَةٌ نَزَلَتْ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ عُقْبَةَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ وَأَبَا عَزَّةَ يَوْمَ أُحُدٍ، قَالُوا: فَلَيْسَ فِي هَذَا حُجَّةٌ، فَقِيلَ فَإِنْ ثَبَتَ فِي هَذَا حُجَّةٌ فَهُوَ الْقَتْلُ كَمَا هُوَ.
فأما الِاحْتِجَاجُ بِمَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنَ الْمَنِّ فَلَيْسَ فِيهِ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ إِنَّمَا مَنَّ عَلَى الْأَشْعَثِ؛ لِأَنَّهُ مُرْتَدٌّ فَحُكْمُهُ أَنْ يُسْتَتَابَ وَإِنَّمَا مَنَّ عُمَرُ عَلَى الْهُرْمُزَانِ؛ لِأَنَّهُ احْتَالَ عَلَيْهِ بِأَنْ قَالَ: لَهُ اشْرَبْ فَلَا بَأْسَ عَلَيْكَ، فَقَالَ لَهُ: قَدْ أَمَّنْتَنِي وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِنَّمَا مَنَّ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُسْلِمَينَ يَشْهَدُونَ شَهَادَةَ الْحَقِّ وَيُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: كُنْتُ مَعَهُ بِصِفِّينَ فَكَانَ إِذَا جِيءَ بِأَسِيرِ اسْتَحْلَفَهُ أَنْ لَا يُكْثِرَ عَلَيْهِ وَدَفَعَ إِلَيْهِ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ فَخَلَّاهُ وَكَانَ هَذَا مَذْهَبَهُ أَنْ لَا يَقْتُلَ الْأَسِيرَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَغْنَمَ مَالَهُ وَلَا يَتْبَعَهُ إِذَا وَلَّى وَلَا يُجْهِزَ عَلَى جَرِيحٍ فَكَانَتْ هَذِهِ سُنَّتَهُ فِي قِتَالِ مَنْ بَغَى مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَافِعٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ قَتَادَةَ، {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] قَالَ: نَسَخَهَا {فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57] وَقَالَ مُجَاهِدٌ نَسَخَهَا {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5].
وَهُوَ قَوْلُ الْحَكَمِ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّهَا نَاسِخَةٌ قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَجَمَاعَةٍ غَيْرِهِ.
كَمَا رَوَى الثَّوْرِيُّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] قَالَ: نَسَخَهَا {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4].
وَمِنْ ذَلِكَ مَا حَدَّثَنَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنَاهُ الْحَسَنُ بْنُ غُلَيْبٍ، عَنْ يوسُفَ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ عَطَاءٍ، {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] قَالَ: فَلَا يُقْتَلُ الْمُشْرِكُ وَلَكِنْ يُمَنُّ عَلَيْهِ وَيُفَادَى إِذَا أُسِرَ كَمَا قَالَ جَلَّ وَعَزَّ.
وَقَالَ الْأَشْعَثُ: كَانَ الْحَسَنُ يَكْرَهُ أَنْ يُقْتَلَ الْأَسِيرُ وَيَتْلُو {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4]. وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: رَوَاهُ شَرِيكٌ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَا يَكُونُ فِدَاءٌ وَلَا أَسْرٌ إِلَّا بَعْدَ الْإِثْخَانِ وَالْقَتْلِ بِالسَّيْفِ.
وَالْقَوْلُ الْخَامِسُ قَالَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ.
كَمَا حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] قَالَ: فَجَعَلَ اللَّهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ بِالْخِيَارِ فِي الْأُسَارَى إِنْ شَاءُوا قَتَلُوهُمْ وَإِنْ شَاءُوا اسْتَعْبَدُوهُمْ وَإِنْ شَاءُوا فَادَوْا بِهِمْ.
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: وَهَذَا عَلَى أَنَّ الْآيَتَيْنِ مُحْكَمَتَانِ مَعْمُولٌ بِهِمَا وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا يَكُونُ بِشَيْءٍ قَاطِعٍ فَإِذَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْآيَتَيْنِ فَلَا مَعْنَى لِلْقَوْلِ بِالنَّسْخِ إِذْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ التَّعَبُّدُ إِذَا لَقِينَا الَّذِينَ كَفَرُوا قَبْلَ الْأَسْرِ قَتَلْنَاهُمْ، فَإِذَا كَانَ الْأَسْرُ جَازَ الْقَتْلُ وَالْمُفَادَاةُ، وَالْمَنُّ عَلَى مَا فِيهِ الصَّلَاحُ لِلْمُسْلِمِينَ وَهَذَا الْقَوْلُ يُرْوَى عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
بَابُ ذِكْرِ الْمَوْضِعِ الثَّانِي:
قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [محمد: 35].
قَالَ أَبْو جَعْفَرٍ: مَنْ قَالَ: هَذِهِ نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] احْتَجَّ بِأَنَّ فِي هَذِهِ الْمَنْعِ مِنَ الْمِيلِ إِلَى الصُّلْحِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ إِلَى الصُّلْحِ وَقَدْ قِيلَ: هَاتَانِ الْآيَتَانِ نَزَلَتَا فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ} [الأنفال: 61] فِي قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ، وَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةً.